فصل: سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر ذي الحجة الحرام سنة 1220:

استهل بيوم الخميس، فيه حضر مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي من الجهة القبلية، وقد تقدم أنهما ذهبا وعادا، ثم رجعا ثانياً على الهجن لتقرير الصلح، ثم رجعا ولم يظهر أثر لذلك الصلح وحكى الناس عنهما أن المذكورين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي، فلم يرضيا بالتوجيه الذي وجه به إليهم وهو من حدود جرجا وقالا لا يكفينا إلا من حدود المنية فأن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف أنه يكفينا نحن الجميع من جرجا وشرطوا أيضاً أنه إن استقر الصلح على مطلوبهم لا بد من إخلاء الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد، ولا يبقى الباشا منهم إلا مقدار ألأفي عسكري وقالوا أنه أيضاً إذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لا يستغني عن أناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يبخل علينا بها، فنحن أولى له وأحسن منهم ونقوم بما على البلاد من المال والغلال وعند ذلك يحصل الأمن وتسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله راحة وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعباً من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد على أنه إن لم يرض بذلك، فها هي البلاد بأيدينا والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنصب.
وفي رابعه، ورد الخبر بأن جماعة من كبار العسكر وفيهم سليمان آغا الأرنؤدي الذي تولى كسوفية منفلوط ومعهم عدة وافرة من العسكر عدوا من المنية إلى البر الشرقي بالمطاهرة بسبب ما عندهم من القحط وعدم الأقوات لإحاطة المصريين بهم، فلما دخلوا إلى بلدة المطاهرة وملكوها وصل إليهم بعض الأمراء والأجناد المصرية وأحاطوا بهم وحاربوهم أياماً حتى ظهروا عليهم وقتلوا منهم وهرب من هرب وهو القليل وأسروا الباقي وفيهم سليمان آغا المذكور فالتجأ إلى بعض الأجناد فحماه من القتل وقابل به كبار الأمراء فأنعموا عليه بكسوة ودراهم وسلاح، وأقام معهم أياماً ثم استأذنهم للعود وحضر إلى مصر وجلس بداره.
وفيه، ورد الخبر أيضاً بموت الأمير بشتك بك المعروف بالألفي الصغير مبطوناً.
وفيه أيضاً حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفاً من العسكر وذهب إلى بلده بالمنوات، ثم ذهب عند الألأفي وأقام في معسكره إلى هذا الوقت، ثم أن الألأفي طرده لنكتة حصلت منه فرجع إلى بلده وأرسل إلى السيد عمر فكتب له أماناً من الباشا، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه فصار يمشي في المدينة وصحبته عسكري ملازم له.
وفي يوم الجمعة تاسعه، كان يوم الوقوف بعرفة وفي ذلك اليوم ركب محمد علي بالأبهة الكاملة وصلى الجمعة بالمشهد الحسيني ولم يركب من وقت ولايته بالهيئة إلا في هذا اليوم وفي عصر تلك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلاماً بالعيد، وكذلك في صبحها وفي كل وقت من الأوقات الخمسة مدة أيام التشريق.
وفي رابع عشره، حضر جاهين بك الألأفي ومعه طوائف من العربان إلى إقليم الجيزة وأخذوا الكلف وأغناماً من البلاد ودراهم، وأشيع بذلك وأمروا بخروج العساكر إليهم وركب محمد علي باشا في يوم الخميس وخرج إلى ناحية بولاق، وأنزلوا من القلعة جبخانه ومدافع وطفقوا يخطفون الحمير من الأسواق إن وجدوها وعدى طائفة من العساكر الخيالة إلى بر الجيزة وعدى طاهر باشا إلى بر أنبابة وصحبته عساكر كثيرة وأزعجوا أهل القرية وخرجوهم من دورهم وسكنوا بها وأطلقوا دوابهم وخيولهم على المزارع فأكلوها بأجمعها، ولم يبقوا منها ولا عوداً أخضر في أيام قليلة.
وفيه اختفى حجاج الخضري أيضاً بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر.
وفي عشرينه شرع عساكر حسن باشا في التعدية من ناحية معادي الخبيري إلى البر الآخر.
وفي يوم الأحد خامس عشرينه، عدى حسن باشا أيضاً.
وفي يوم الاثنين، نودي في الأسواق على العساكر الذين لم يكونونا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج إلى بلادهم ومن وجد منهم بعد ثلاثة أيام قتل، وكذلك كتبوا فرمانات وأرسلوها إلى البلاد بمعنى ذلك ومن كان من أهل البلد أو المغاربة أو الأتراك بصورة العسكر ومتزيياً بزيهم فلينزع ذلك وليرجع إلى زيه الأول.
وفيه أيضاً نودي على المعاملة الناقصة لا تقبض إلا بنقص ميزانها لأن المعاملة فحش نقصها جداً وخصوصاً الذهب البندقي الذي كان أحسن أصناف العملة في الوزن والعيار والجودة فأن العسكر تسلطوا عليه بالقص فيقصون من المشخص الواحد مقدار الربع أو أكثر أو أقل ويدفعونه في المشتروات ولا يقذر المتسبب على رده أو طلب إرش نقصه، وكذلك الصيرفي لا يقدر على رده أو وزنه وقتل بذلك قتلى كثيرة وأغلق الصيارف حوانيتهم وامتنعوا من الوزن خوفاً من شرهم، وكذلك نودي على التعامل في بيع البن بالريال المعاملة وهو تسعون نصفاً، وقد كان الاصطلاح في بيع البن بالفرانسة فقط وبلغ صرف الفرانسة مائة وثمانين نصفاً ضعف الأول وعز وجوده لرغبة الناس فيه لسلامته من الغش والنقص لأن جميع معاملة الكفار قوله السير هكذا في نسخ وفي بعض النسخ القبسير، ولم نقف بعد المراجعة عليها بهامش النسخة المطبوعة سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين فأن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص، فلما انطبعوا على ذلك ونظروا إلى معاملات الكفار وسلامتها تسلطوا عليها بالقطع والتنقيص والتقصيص تتميماً للغش والخسران والانحراف عن جميع الأديان وقال صلى الله عليه وسلم: «الدين المعاملة»، و«من غشنا فليس منا» فيأخذون الريالات الفرانسة إلى دار الضرب ويسبكونها ويزيدون عليها ثلاثة أرباعها نحاساً ويضربونها قروشاً يتعاملون بها، ثم ينكشف حالها في مدة يسيرة وتصير نحاساً أحمر من أقبح المعاملات شكلاً ووضعاً لا فرق بينها وبين الفلوس النحاس التي كانت تصرف بالأرطال في الدول المصرية السابقة في الكم والكيف بل تلك أجمل من هذه في الشكل، وقد شاهدنا كثيراً منها وعليها أسماء الملوك المتقدمين ووزن الواحد منها نصف أوقية، وكان الدرهم المتعامل به إذ ذاك من الفضة الخالصة على وزن الدرهم الشرعي ستة عشر قيراطاً ويصرف بثلاثة أرطال من الفلوس النحاس فيكون رف الدرهم الواحد اثنين وسبعين فلساً تستعمل في جميع المشتروات والمرتبات والمعاليم واللوازم للبيوت والجزئيات والمحقرات، فلما زالت الدولة القلوونية وظهرت دولة الجراكسة واستقر الملك المؤيد شيخ في سلطنة مصر وبدا الاختلال اختصر الدرهم المتعامل به وجعله نصف درهم وهو ثمانية قراريط وسمي نصف مؤيدي ولم تزل تتناقص حتى صارت في آخر الدولة الجركسية أقل من ربع الدرهم واختل أمر الفلوس النحاس والمرتبات والوظائف بالأوقاف المشروط فيها صرف المعاليم بالفلوس، ولم يزل الحال يختل ويضعف بسبب الجور والطمع والغش وغباوة الأمر وعمي بصائرهم عن المصالح العامة التي بها قوام النظام حتى تلاشى أمر الدراهم جداً في الوزن والعيار وصار الدرهم المعبر عنه بالنصف أقل من العشر للدرهم وفيه من الفضة الخالصة نحو الربع فيكون في النصف الذي هو الآن بدل الدرهم الأصلي من الفضة الخالصة أقل من ربع العشر فيكون في النصف الواحد من معاملتنا الآن الذي وزنه خمس قمحات فقيراط وربع ثلث قيراط من الفضة، وذلك بدل عن ستة عشر قيراطاً وهو الدرهم الأصلي الخالص فانظروا إلى هذا الخسران الخفي الذي انمحقت به البركة في كل شيء فإن الدرهم الفضة الآن صار بمنزلة الفلس النحاس القديم فتأمل واحسب تجد الأمر كذلك فإذا فرضنا أن إنساناً اكتسب ألف درهم من دراهمنا هذه فكأنه اكتسب خمسة وعشرين لا غير وهو ربع عشرها على أنه إذا حسبنا قيمة الخمسة وعشرين في وقتنا هذا عن كل درهم ثلاثون نصفاً فإنها تبلغ سبعمائة وخمسين ويذهب الباقي وهو مائتان وخمسون هدراً، وأما الذهب فإن الدينار كان وزنه في الزمن الأول مثقالاً من الذهب الخالص، ثم صار في الدولة الفاطمية وما بعدها عشرين قيراطاً وكان يصرف بثلاثين درهماً من الفضة، فلما نقص الدرهم زاد صرف الدينار إلى أن استقر وزن الدينار في أوائل القرن الماضي ثلاثة عشر قيراطاً ونصفاً ويصرف بتسعين نصفاً وهو المعبر عنه بالأشرفي والطرلي المعروف بالفندقلي يصرف بمائة وكانا جيدين في العيار، وكذلك الأنصاف العددية كانت إذ ذاك جيدة العيار والوزن، وكان الريال يصرف بخمسين نصفاً والريال الكلب باثنين وأربعين نصفاً، ثم صار الدينار وهو المحبوب الجنزرلي بمائة وخمسين والفندقلي بمائة وعشرين والفرانسة بستين، ثم حدث المحبوب الزر في أيام السلطان أحمد بدلاً عن الجنزرلي وغلا صرف الجنزرلي، وكان في وزن المشخص وعياره ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطاً ونصف إلى أن زاد الاختلال في أيام علي بك والمعلم رزق واستيلائه على دار الضرب والقروش واستعمل ضرب القروش واستكثر منها وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات، واستقر الأشرفي المعروف بالزر بمائة وعشرة والطرلي بمائة وستة وأربعين والمشخص بمائتين والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من أيام علي بك وفحش وجود القروش المفردة وضعفها وأجزاؤها، حتى لم يبق بأيدي الناس من التعامل إلا هي وعز باقي الأصناف المذكورة وطلبت للسبك والادخار وصياغة الحلي فترقت في الصارفة والإبدال فلما زالت دولة علي بك وتملك محمد بك أبو الذهب نادى بإبطال تلك القروش بأنواعها رأساً، فخسر الناس خسارة عظيمة من أموالهم وباعوها بالأرطال للسبك واقتصروا على شرب الأنصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لا غير ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت قيمتها وغلت في الصارفة وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلاء والغرامات وضيق المعاش وكساد البضائع وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصاً في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين، واقترن بذلك تغافل الحكام وعدم التفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم وتركهم النظر في العواقب إلى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود، وبلغت في المصارفة أكثر من الضعف وصار صرف المحبوب مائتين وخمسة بل وعشرة والريال الفرانسة بمائة وخمسة وسبعين بل وثمانين والمشخص البندقي بأربعمائة وأكثر والمجر بثلاثمائة وستين والفندقلي بثلاثمائة وعشرين وهو الجديد، ويزيد القديم لجودة عياره عن الجديد وتتفاوت المثلية في المحبوب بجودة العيار فإذا أبدل السلمي الموجود الآن بالمحمودي زيد في مصارفته أربعون نصفاً وأكثر بحسب الرغبة والاحتياج ويتفاوت أيضاً المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلاً عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطاً ووزن المشخص ثمانية عشر قيراطاً فالتفاوت بينهما تسعة قراريط وهي ما فيه من الخلط، وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه ولم يزل أمر المعاملة وزيادة صرفها وإتلاف نقودها واضطرابها مستمر أو كل قليل ينادون عليها مناداة بحسب أغراضهم لا نسمع، ولا تقبل ولا يلتفت إليها لأن أصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبائثهم وفسادهم. لي، وكان في وزن المشخص وعياره ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطاً ونصف إلى أن زاد الاختلال في أيام علي بك والمعلم رزق واستيلائه على دار الضرب والقروش واستعمل ضرب القروش واستكثر منها وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات، واستقر الأشرفي المعروف بالزر بمائة وعشرة والطرلي بمائة وستة وأربعين والمشخص بمائتين والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من أيام علي بك وفحش وجود القروش المفردة وضعفها وأجزاؤها، حتى لم يبق بأيدي الناس من التعامل إلا هي وعز باقي الأصناف المذكورة وطلبت للسبك والادخار وصياغة الحلي فترقت في الصارفة والإبدال فلما زالت دولة علي بك وتملك محمد بك أبو الذهب نادى بإبطال تلك القروش بأنواعها رأساً، فخسر الناس خسارة عظيمة من أموالهم وباعوها بالأرطال للسبك واقتصروا على شرب الأنصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لا غير ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت قيمتها وغلت في الصارفة وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلاء والغرامات وضيق المعاش وكساد البضائع وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصاً في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين، واقترن بذلك تغافل الحكام وعدم التفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم وتركهم النظر في العواقب إلى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود، وبلغت في المصارفة أكثر من الضعف وصار صرف المحبوب مائتين وخمسة بل وعشرة والريال الفرانسة بمائة وخمسة وسبعين بل وثمانين والمشخص البندقي بأربعمائة وأكثر والمجر بثلاثمائة وستين والفندقلي بثلاثمائة وعشرين وهو الجديد، ويزيد القديم لجودة عياره عن الجديد وتتفاوت المثلية في المحبوب بجودة العيار فإذا أبدل السلمي الموجود الآن بالمحمودي زيد في مصارفته أربعون نصفاً وأكثر بحسب الرغبة والاحتياج ويتفاوت أيضاً المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلاً عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطاً ووزن المشخص ثمانية عشر قيراطاً فالتفاوت بينهما تسعة قراريط وهي ما فيه من الخلط، وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه ولم يزل أمر المعاملة وزيادة صرفها وإتلاف نقودها واضطرابها مستمر أو كل قليل ينادون عليها مناداة بحسب أغراضهم لا نسمع، ولا تقبل ولا يلتفت إليها لأن أصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبائثهم وفسادهم.
وفي آخره، أذن الباشا لولده الكبير بالذهاب لزيارة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بطندتا وعين صحبته أتباعاً وعسكراً وهجناً وقرر له دراهم على البلاد ألف ريال، فما دونها خلاف الكلف وكذلك سافر حريمات ورئيسهن حريم مصطفى آغا الوكيل في هيئة لم يسبق مثلها في تختروانات وعربات ومواهي وأحمال وجمال وعسكر وخدم وفراسين وفرضوا لهن أيضاً مقررات على البلاد وكلفاً، ونحو ذلك وأظن أن هذه المحدثات من أهوال القيامة.
وانقضت السنة وما حدث فيها من الحوادث الإنذارات.
ومات فيها الإمام العلامة والبحر الفهامة صدر المدرسين وعمدة المحققين مفتي الحنفية بالديار لمصرية الشيخ محمد عبد المعطي ابن الشيخ أحمد الحريري الحنفي ولد سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ونشأ في عفة وصلاح وحفظ القرآن وجوده وحفظ المتون، وحضر أشياخ العصر وجود الخطوكان ينسخ بالأجرة وكتب كتباً كثيرة وخطه في غاية الصحة والجودة وغلبها في الأدبيات كالريحانة وخبايا الزوايا وخزانة الأدب والتي بخطه من ذلك في غاية الحسن والقبول وكان شافعي المذهب، ثم تحنف وحضر على أشياخ المذهب مثل الشيخ محمد الدلجي والشيخ محمد العدوي ولازم الشيخ حسن المقدسي ملازمة كلية وانتسب إليه وعرف به، وحضر عليه وتلقى عنه غالب الكتب المشهورة في المذهب وحضر باقي العلوم على الشيخ الملوي والحنفي والشيخ علي العدوي وغيرهم، وكان يكتب الأجوبة على الفتاوى عن لسانه، ولما توفي شيخه المذكور تقرر مكانه في وظيفة الخطابة والإمامة بجامع عثمان كتخدا بالأزبكية وسكن بالدار المشروطة له بها السكنى برحاب الجامع المذكور وكانت خطبه في غاية الخفة والاختصار ولوعظه وقع في النفوس لخلوه عن التصنع، ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف وحصل ما حصل للشيخ عبد الرحمن العريشي، كما تقدم تعين المترجم لمشيخة الحنفية والفتوى عوضاً عن المذكور قبل وفاته بأيام قليلة، وكان أهلاً لذلك وكفاله وسار فيها حسناً بحشمة واشتهر ذكره وقصدته الناس للفتوى والإفادة وأقبلت عليه الدنيا وسكن داراً مشرفة على الأزبكية جارية في وقف عثمان كتخدا واشترى أيضاً داراً نفيسة بالجودرية وأسكنها لغيره بالأجرة، وانحصرت فيه وظائف مشيخة الحنفية كالتدريس في مدرسة المحمودية والصرغتشمية والمحمدية وغيرها، فكان يباشر الإقراء بنفسه في بعضها والبعض ولده العلامة الشيخ إبراهيم ولم يزل يقرئ ويملي ويفيد حتى في حال انقطاعه؛ وذلك أنه لما مات أحمد آغا غانم وحصل بين عتقائه منازعة ثم اتفقوا على تحكيم المترجم بينهم والتمسوا منه أن يذهب صحبتهم إلى فوة ليصلح بينهم، فلما ذهب إلى بولاق وأراد النزول في السفينة اعتمد على بعض الواقفين فعثرت رجله فقبض ذلك الرجل على معصمه فانكسر عظمه لنحافة جسمه فعادوا به إلى داره وأحضروا له من عالجه حتى بريء بعد شهور وفرحوا بعافيته ودعاه بعض أحبابه بناحية قناطر السباع، فركب وذهب إليه وكانت أول ركباته بعد برئه، فلما طلع إلى المجلس وأراد الصعود إلى مرتبة الجلوس زلقت رجله فانكسر عظم ساقه وتكدر الحاضرون وحملوه وذهبوا به إلى داره وأحضروا له المعالج، فلم يحسن المعالجة وتألم تألماً كثيراً واستمر ملازماً للفراش نحو سبع سنوات، ثم توفي يوم الأربعاء سابع عشر رجب من السنة عن سبع وسبعين سنة ودفن بتربة الأزبكية وتعين بعده في المشيخة والإفتاء ولده المحقق العلامة المستعد الشيخ إبراهيم أدام الله النفع بحياته وحفظ عليه أولاده.
ومات الأجل الأمثل المفوه المنشئ النبيه الفصيح المتكلم عثمان أفندي ابن سعد العباسي الأنصاري من ولد آخر الخلفاء العباسية بمصر المتوكل على الله ووالده يعرف بالأنصاري من جهة النساء من بيت السيادة والخلافة ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بالعلم على فضلاء الوقت ومهر في الفنون بذكائه وعانى الحساب والنجوم فأخذ منها حظاً، ونزل كاتب سر في ديوان بعض الأمراء ولامه بعض محبيه في ذلك فاعتذر أنه إنما قدم عليه صيانه لبعض بلاده وضياعه التي استولت عليها أيدي الظلمة فلا محيد له عن عشرتهم، واجتمع بشيخنا الشيخ محمود الكردي وأراد السلوك في طريق الخلوتية وترك شرب الدخان ولازمه كثيراً وتلقن الاسم الأول والأوراد وأقلع عما كان عليه حتى لاحت عليه أنوار ملازمته واعتقده جداً، وبعد وفاة الأستاذ رجع إلى حالته وشرب الدخان، ثم ولي خليفة على غلال الحرمين فباشرها بشهامة، ثم ولي روزنامة مصر بصرامة وقوة مراس وشدة ومخادعة وراج أمره واتسع حاله وزادت حشمته وذلك بعد عزل أحمد أفندي الكماخي الروزنامجي وثقل أمره على باقي الكتبة والناس فأوغروا عليه وعزلوه فضاق صدره وزاد قلقه وحدث فيه رعونة وتردد لمشاهد الأولياء في الليل والنهار يبتهل ويدعو ويفرق خبزاً ودراهم ويأوي إليه المجاذيب والذين يدعون الصلاح والولاية فيكرمهم برهة ويرون له مرائي ومنامات وإخباريات فيزداد هوسه، ثم لما يطول الحال ينقطع عنهم ويبدلهم بآخرين وهكذا وكان نام مع بعضهم في لحريم ويترجم بعضهم بمكاشفات وشطحيات ويقول فلان يطلع على خطرات القلوب وفلان يصعد إلى السماء ومن كرامات فلان كذا، ثم يرجع عن ذلك ولما مات السيد محمد عيد في كتابة الروزنامه أيضاً واستمر بها ثمانية عشر شهر وكانت إعادته في سنة ثمان بعد المائتين، ثم انحرف عليه إبراهيم بك الكبير وعزله وكان يظن أن الأمر يؤول إليه، فلم يتم له ذلك وأحضر إبراهيم بك السيد إبراهيم ابن أخي المتوفي وقلده ذلك فعندها أيس المترجم منها واختلفت الأمور بحدوث الفتن وتقلب الدول والأحوال ولازم شأنه وبيته بعد رجوعه من هجرته إلى الشام في حادثة الفرنسيس واعترته الأمراض واجتمعت لديه كتب كثيرة في سائر العلوم وبيعت بأسرها في تركته توفي يوم الأربعاء خامس عشرين شوال من السنة.
ومات العمدة الإمام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد ابن سيرين بن محمد بن محمود ابن جيش الشافعي المقدسي ولد في حدود الستين وقدم به والده إلى مصر فقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه، وحلت عليه أنظاره وحصل طرفاً جيداً من العلوم على الشيخ عطية الأجهوري ولازمه ملازمة كلية وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم علي الشيخ أحمد الراشدي، واتصل بشيخنا الشيخ محمود الكردي فلقنه الذكر ولازمه وحصلت له منه الأنوار وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوائح النجابة وألبسه التاج وجعله من جملة خلفاء الخلوتية وأمره بالتوجه إلى بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر وله فهم جيد مع حدة الذهن وأقبلت عليه الناس بالمحبة ونشر له القبول عند الأمراء والوزراء وقبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم وأخبرني بعض من صحبه أنه يفهم من كلام الشيخ ابن العربي ويقرره تقريراً جيداً ويميل إلى سماعه وحج من بيت المقدس وأصيب في العقبة بجراحة في عضده وسلب ما عليه وتحمل تلك المشقات ورجع إلى مصر فزار شيخه الشيخ محمود أو جلس مدة ثم أذن له بالرجوع إلى بلده وسمع أشياء كثيرة في مبادي عمره واقتبس من الأشياخ فوائد جمة حتى قبل اشتغاله بالعلم وفي سنة 1182 كتب إلى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه فكتب له أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، وقد تقدم ذكرها في ترجمة السيد مرتضي، ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد واشتهر ذكره في الآفاق وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق وسطعت أنواره وعمت أسراره وانتشرت في الكون أخباره وازدحمت على سدته زواره إلى أن أجاب الداعي ونعته النواعي، وذلك سابع عشرين شهر شعبان من السنة ولم يخلف بعده مثله وبه ختمت دائرة المسلكين من الخلوتية ورجال السادة الصوفية وحسن به ختم هذا الجزء الثالث من كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار لغاية سنة عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وسنقيد إن شاء الله تعالى ما يتجدد بعدها من الحوادث من ابتداء سنة إحدى وعشرين التي نحن بها الآن إن امتد الأجل وأسعف الأمل ونرجو من الكريم المتعال صلاح الأحوال وانقشاع الهموم وصلاح العموم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والله أعلم.

.سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف: